السينما الرومانية .. وتحديات السينما المصرية

سامح سامي

في تأسيس "مجلة الفيلم" وردت عبارة شديدة الوضوح حول رؤيتها، ولماذا تصدر؟ العبارة تؤكد اهتمام:"مجلة الفيلم بالثقافة السينمائية، والسينما العالمية وآفاق تطورها، إضافة إلى اهتمامها بالتجارب الرائدة لسينما الحضارات الإنسانية المختلفة، خاصة تجارب الشعوب التي تسعي للخروج من هيمنة هوليوود".
هذه العبارة تقطع الطريق لمن يسأل لماذا نصدر عددا خاصا عن السينما الرومانية؟ وما أهميته؟ وماذا يفيد ذلك للصانع المصري؟ لكن الموضوع أكبر من سؤال هنا وتساؤل هناك حول صدور عدد خاص عن السينما الرومانية، إذ أن السؤال الأهم لماذا ظهرت هناك سينما جديدة، وهنا السينما- بدون الوقوع في أخطاء التعميم- "مجرد جنين"، مقطوع الصلة معرفيا عن التراث المصري العظيم في صناعة السينما، أو حسب أسوأ العبارات لا توجد "سينما جديدة" في مصر؟
في الاجتماع التحريري لمجلة الفيلم طُرح تخوف من مقارنة السينما الرومانية بالمصرية. وقتها تركت التخوف يتسرب إليّ. لكني لم أستطع الهروب من سؤال لماذا الفيلم المصري لا يكون بحيوية الفيلم الروماني، رغم أن البعض يحاول مقاربة الفيلم المصري بالروماني بذكره أفلام الواقعية المصرية في الثمانينات؟ ولماذا الفيلم الروماني شديد الجمال مقارنة بالمصري رغم أن البيئة والإمكانات متشابهة؟ لماذا نشعر بانبهار تجاه الفيلم الروماني، ولا نشعر بمثله تجاه الفيلم المصري؟ وإذا تخلينا أن "كريستيان مونجيوو" كان مصريا ماذا كان سيقدم؟
أعتقد أن الإجابة تكمن في محتوى الفيلم وفكرته والمعالجة واللغة السينمائية، وليس فقط في الإمكانات والتقنيات عالية الجودة. تكمن أكثر في عدم التقليد الأعمى للأساليب العالمية في انتاج الأفلام. الفيلم الروماني هو ابن بيئته وقضايا مجتمعه، حتى لو كان صناعه ينتجونه من فرنسا أو من أمريكا. لكن ليس هذا كله سبب حيوية السينما الرومانية، هناك المزيد في السطور التالية..
(2)
الباحث شهاب الخشاب في مقاله المنشور في هذا العدد، والذي يكتبه باللغة المصرية، قال:"إشمعنى فيه مجموعة سينمائيين جدد في رومانيا قدروا ينتجوا سينما جديدة ومثيرة وإنسانية بإمكانيات مادية ضعيفة، وفي المقابل مافيش مجموعة زييهم في مصر؟ إشمعنى السينما الإيرانية قادرة تنتج عباس كيارستمي ومحسن مخملباف وأصغر فرهادي، اللي حققوا شهرة عالمية في المهرجانات الكبيرة والصغيرة، ومافيش مخرج عنده نفس الشهرة والسمعة في مصر؟ إشمعنى الرومانيين والإيرانيين قادرين يحققوا النجاح ده وإحنا مش قادرين؟
لازم نلاحظ أولاً إن السؤال ده مالوش جواب قومجي بسيط، بمعنى إن مافيش حاجة جوهرية وأصيلة جوة الشعب الروماني أو الشعب الإيراني أو الشعب المصري بتخلليهم أحسن في صناعة السينما من الثانيين، بدليل إن مافيش سينما من السينمات دي كانت جامدة وعظيمة ومالهاش حل طول عمرها، وكان ممكن المواطن الروماني والإيراني يحس إن مافيش أمل في تطوّر مستوى السينما الجمالي والصناعي والفكري لغاية ما المستوى ده اتطوّر بالفعل. بالتالي ظهور سينما رومانية أو إيرانية أو مصرية جديدة دايماً وارد حسب الظروف التاريخية والضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتاحة، ومافيش حد أجمد من الثاني لمجرد إنه اتولد في بلد معيّنة".
إذن ليس مهما ما يقال حول السينما المصرية وتاريخها العظيم، الأهم ماذا فعل صناع السينما الآن بهذا التراث الكبير، كيف أستفادوا؟ ماذا فعلوا بكل ذلك التراكم الضخم؟ لماذا رغم أهمية تاريخها الطويل ليس للسينما المصرية لغة خاصة؟ ما هو وضع السينما المصرية الآن؟
(3)
في الترجمات التي نقدمها في الصفحات التالية عن الموجة الجديدة للسينما الرومانية، لفت نظري- بالإضافة إلى جماليات السينما الرومانية وحيويتها، أمر يبدو أنه الحل الأبرز لحل أزمة صناعة السينما المصرية، أو هو الحل الذي نراه في مجلة الفيلم وجماعة الجزويت لجعل السينما المصرية، سينما ناهضة- وهو اعتماد صناع أفلام الموجة الرومانية الجديدة إلى موارد تمويل مستقلة لأفلامهم وأفلام زملائهم. حيث أنفقوا من أموالهم الخاصة على إنتاج الأفلام. وأسسوا شركات انتاج صغيرة، ليس من أجل الاستقلال المالي فقط، بل للمحافظة على استقلالهم الإبداعي، الأمر الذي شكل سمة مهمة اشتركوا فيها جميعا. وتنافست الشركات مع بعضها على نفس الموارد. وأسس ناي كارانفيل شركة "السينما المستقلة" (Independența Film)، وتبعه توماس كيليو عام 1999 بتأسيس شركة "أوروبوليس"، وأسس كريستي بويو شركة "أفلام موبرا" في 2003. وعكست كل هذه المحاولات رغبة في الاستقلال عن سينما أنظمة الاستوديو، السمة التي جمعت سينما الموجة الجديدة مع سالفتيها الإيطالية والفرنسية.
وارتبطت الاستقلالية لدى بعض صناع الأفلام الشباب بخلفياتهم الأكاديمية أيضًا. حيث لم يتخرج بعض المخرجين الشباب مثل كريستي بويو أو كونستانتين بوبيسكو من المؤسسة الأكاديمية الرئيسية في رومانيا "الجامعة الوطنية للدراما والسينما"، بل تخرج الأول فى كلية فنون، والثاني من الدراسات الفلسفية. وعلى هذا لم يتبعوا الصياغة الأكاديمية التي يوفرها تعليم السينما التقليدي، الذي تقدمه تلك الجامعة. وهنا يأتي سحر الاستقلال وفاعلية التعليم الإبداعي أو البديل.
وفي كتاب "سينما الموجة الجديدة في رومانيا"، تأليف دورو بوب، والذي نقدمه هنا أيضا للقارئ المصري يشرح أسباب نجاح السينما الرومانية المعاصرة، التي أدت بها لأن تصبح ظاهرة عالمية، فيقول:" مثلما كان حال "الموجات الجديدة" التشيكية أو البولندية في الخمسينيات والسيتنيات، كانت الموجة الجديدة، كحركة فنية، جزءًا من ثقافة أوسع، ومقاومة سياسية وإيديولوجية لنظام شمولي. فوجود مدرسة السينما البولندية ومخرجين أمثال ميلوش فورمان ، ورومان بولانسكي ، وأندريه فايدا، أو مدرسة السينما المجرية (بقيادة مخرجين مثل جانسو وإستفان زابو، أو حتى السينما اليوغوسلافية ماكافييف، التي لاقت اهتمامًا عالميًا، كان مرتبطًا بوجود سياق سياسي محدد. ويتمثل الهدف الرئيسي الآخر لهذا التحليل، في تفسير التطور الأخير لتطبيقات الموجة الجديدة في صناعة السينما الرومانية، ومقارنتها بفلسفات سينمائية أخرى مشابهة.
وتضم القائمة القصيرة لسينمائيي "الموجة الرومانية الجديدة" ، التي بدأت مع كريستي بويو، كلًا من ماريان كريسان، وتودور جيورجو، وكريستيان مونجيو، ورادو منتين ، وكاتالين ميتوليسكو ، وكورنيليو بورومبويو، وفلورين سيربان، وكلهم حاصلون على جوائز من أهم جوائز السينما الأوروبية.
وحيث كانت هذه الموجة السينمائية الجديدة بمثابة نقطة تحول في تاريخ صناعة السينما الرومانية، فقد خلقت حركة فنية واجتماعية مركبة. ويركز الكاتب على التحول الجذري في السينما الرومانية وصناعة السينما الوطنية خلال هذا العقد، حتى يصل إلى التفسيرات النظرية لنجاح السينما الرومانية المعاصرة، والأسباب التي أدت بها لأن تصبح ظاهرة عالمية.
ويفترض الكاتب أن شرح صناعة السينما الرومانية الحديثة، يتطلب فهمًا لتأثير الموجات الأوربية الجديدة، من الواقعية الإيطالية الجديدة، إلى السينما البريطانية الجديدة، وعبر الموجة الفرنسية الجديدة، والموجة الجديدة في أوروبا الوسطى والشرقية.
(4)
في العدد السابق الذي خصصناه عن تعليم السينما في تجارب الشعوب، كان يشغلني البحث هل هناك أي منهج تعليمي في العالم يدرس السينما المصرية، ولغتها في أي مرحلة من مراحلها؟
وحتى لا يتعصب البعض من الكلمات السابقة، فأنا أتحدث هنا عن سينما مصرية حدثت لها قطيعة معرفية كبرى بالسينما المصرية، التي كانت رائدة ومجددة قديما. وأؤكد- كما كتبت من قبل- أن هناك استثناءات سينمائية بديعة. لكنها لا تشكل تيارا، ولا تخلق حالة سينمائية متفردة في مصر، بل هي جهد هنا، وجهد هناك. وتلك الاستثناءات هي التي يمتدحها نقاد السينما، ويركزون عليها دوما. لكن لابد من نظرة نقدية حقيقية لما تقدمه السينما المصرية، إذا أردنا النهوض بها حقا، وتحويلها من مجرد "تجارة وسوق" إلى صناعة وفن. الصناعة ليست فيلما ممتازا هنا أو فيلما مشوها هناك. الصناعة جزء بسيط من عملية متكاملة تبدأ بالتعليم والتمكين والتكوين، وبحالة مجتمعية، تسمح بمناخ صحفي ونقدي يساعد صناع الأفلام على خلق تيار جديد متراكم ومترابط. لكن هناك أزمة أخرى، ربما لا تقل أهمية عن انتاج الفيلم، وهي عدم وجود صحافة بحثية جادة في مصر، تساعد الصناع الشباب خاصة على إيجاد طريق بديل إبداعي في صناعة السينما. الأزمة أكبر من مجرد الكتابة النقدية، فالكل يتحدث عن عيوب خطيرة تشوبها. إذ أن الجهد النقدي الآن يرتكز في مجمله على تلخيص الفيلم في "حلو ووحش"، بالطبع هناك استثناءات نقدية محترمة إلا أنها - كما هو الحال في صناعة السينما- لا تشكل تيارا يساعد السينما على الإنطلاق، فيخرجها من سجن التقليد إلى فضاء جديد. وتلك أزمة يطول شرحها تعاني منها حركة النقد خاصة، والصحافة عامة.
لذلك أضع أمام أساتذتي وزملائي تلك المهمة، خاصة أن المجلة تستقبل كل عدد أسماء شغوفة بالثقافة والسينما والكتابة، فهذا العدد يكتب معنا لأول مرة سناء عبد العزيز، علياء طلعت، أندرو محسن، وزينب البقري، ومعهم زملائي الكتّاب الدائمين في المجلة، والذين يطورونها عددا وراء عدد ليليق بمطبوعة تتبع الجمال الإنساني في ثقافة الشعوب المتاحة عبر تجارب سينمائية، ومنها السينما الرومانية.